لا بالما
أجمل جزر الكناري
حيث الغابات الشاسعة تغازل مياه المحيط اللازوردية، والفضاء يتعطر بعبق أشجار الغار، وزهر اللوز والليمون.
يلف لا بالما La Palma دفقات من عبير فواح تبثه زهور أشجار اللوز الندية، بينما تكتسي منحدراتها المدرجة بأشجار الموز الممتدة عبر الأفق. وسط هذه اللوحة الطبيعية الخلابة، يسهل على الزائر اكتشاف أسباب إطلاق اسم «الجزيرة الجميلة» على هذه البقعة الرائعة المطلة في شموخ على صفحة مياه الأطلسي. في الوقت نفسه، يطلق عليها أهلها اسم «الجزيرة الخضراء»، إذ تمتد في ربوعها مساحات شاسعة تكتسي ببهاء لون الطبيعة الأخضر الزاهي، وذلك بفضل سقوط الأمطار التي تبلغ أعلى معدلاتها، مقارنة بما يهطل منها على بقية جزر الكناري جميعًا. كما تتميز الجزيرة بالهدوء الساحر، والطبيعة البكر، وقلة أعداد السياح الوافدين إليها نسبيًا.
بينما تندفع طائرتنا بخفة متخذة طريقها نحو الهبوط على أرض المطار، تبدو الجزيرة، واسمها بالكامل سان ميجيل دي لا بالما San Miguel de La Palma، الممتدة على مساحة 700 كيلو متر مربع، مثل مثلث قاعدته إلى أعلى. تشغل قمة Roque de Los Muchachos الشاهقة، وغابات أشجار الغار والصنوبر الجزء الشمالي، الخصيب والمفعم باللون الأخضر البهيج، من الجزيرة الجميلة، في الوقت الذي يغلب على الجزء الجنوبي منها الجفاف والمناطق الجبلية والصخور. هذا، وتمتد فوهة البركان الضخمة في Caldera de Taburiente لتشغل وسط الجزيرة، ما جعلها واحة لمحبي النزهات، وعشاق الطبيعة، ومتتبعي مسارات النجوم حين تصفو لها العلياء، وعلماء البراكين.
تزدان مدينة سانتا كروز، عاصمة الجزيرة، بمبانيها الملونة ذات الطراز المعماري الفريد، ومتاجرها الصغيرة المميزة، وشوارعها المرصوفة بالحجارة. كما تنتشر المقاهي الأنيقة على الأرصفة الممتدة على طول الساحل، وفي أغلب الميادين المزروعة بالزهور البديعة. يبلغ عدد سكان المدينة 18 ألف نسمة، ما يجعلها تنعم بأجواء المدن الصغيرة في الوقت الذي تحظى فيه بمميزات العواصم والموانئ. في واقع الأمر، تضم الجزيرة التي تأتي في المركز الرابع من حيث عدد السكان بين جزر الكناري كافة، ما يزيد على 80 ألف إنسان، ما يمنح زائرها هدوءًا وسكينة، بعيدًا عن الازدحام الذي لا تعرفه أروقتها.
يقوم اقتصاد الجزيرة بالأساس على نشاطها الزراعي، فالأمطار الغزيرة تضمن جودة المحاصيل مثل الموز، والعنب، والأفوكادو، والتبغ. غير أن الموز، الذي يبلغ إنتاجه السنوي 150 ألف طن، يعد أهم محاصيل التصدير. جلبت هذه الفاكهة من الهند الصينية إلى الجزيرة للمرة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر. في قرية إل باسو El Paso، لا تزال صناعة الحرير يدويًا قائمة حتى اليوم. هذا، إضافة إلى صناعات صغيرة يدوية أخرى مثل المشغولات الخشبية، وصناعة السلال، والتطريز. يذكر أنها جميعًا ترتبط بآخر مصادر الدخل من النقد الأجنبي، وهي السياحة. وتكتمل الأنشطة الاقتصادية في الجزيرة بالصيد وإنتاج العسل.
تاريخيًا، كان أوائل مستوطني الجزيرة يدعون «البنهواريين»، بينما حملت الجزيرة ذاتها اسم بنهوار، أي «أرض الوطن»، لكن المقيمين على أرضها الآن لا تعرف هوية جذورهم أو من أين تنبع أصولهم. بُعَيد وصول الإسبان إلى لا بالما، أصبحت الجزيرة جزءًا من قشتالة، وذلك في سنة 1493. في القرن التالي، وفد إليها المهاجرون من إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، والدول المنخفضة. بحلول القرن السادس عشر، أصبح السكر والعسل سلعتي التصدير الأساسيتين، وقطعت أشجار الصنوبر لتزويد أحواض السفن بالأخشاب اللازمة لصنعها، كما أصبحت سانتا كروز ثالث أهم موانئ الإمبراطورية الإسبانية. ثم انتعش اقتصاد لابالما وفقًا لرواج أسواق المحاصيل النقدية أو ركودها. لكن كثيرًا من سكانها اضطر إلى الهجرة نحو أمريكا الجنوبية، في محاولة لكسب العيش بعيدًا عن الجزيرة، حينما عانت آثار سنوات عجاف مرت بها.
الآن، نبدأ رحلتنا لاستكشاف الجزيرة الجميلة. نتوجه إلى محطتنا الأولى في العاصمة سانتا كروز التي شُيِّدت على شكل مدرج فوق منحدرات تحيط بفوهة بركان لا كالديريتا La Caldereta. تقع سانتا كروز في شرق الجزيرة، إلى المنتصف بين الشمال والجنوب، وهي تطل على صخور منحوتة خلفها السكان الأصليون «الغوانش». تنحدر شوارع هذه المدينة الجذابة التي تتميز بمبان بيضاء تجمع بين عبق التاريخ والحداثة، لتأخذ طريقها نحو مياه البحر، وتتميز هذه الشوارع بالضيق والتعرج.
ولقد تأسس الحي التجاري في المدينة سنة 1493 في منطقتي الميناء وحوض اليخوت الذي يحده طريق ساحلي يطلق عليه اسم أفنيدا ماريتيما Avenida Maritima. كما يتخذ مبنى مجلس الحكومة المحلية للجزيرة Cabildo Insular موقعًا رئيسًا مطلاً على الميناء. هناك، تبقى للتجوال على امتداد الطريق الساحلي متعة خاصة، إذ تزينه البيوت الأنيقة العريقة بشرفاتها المذهلة المميزة بالزهور، وقد اعتلى بعضها رموز العائلات وشعاراتها وقد حفرت فوقها.
على بعد أمتار عدة من الساحل، يقع شارع Calle O’Daly المخصص للمشاة، وهو يعد وسط المدينة الصاخب بالحياة، النابض بإيقاعها المتجدد. يحمل هذا الشارع الطويل اسم أحد تجار الموز الأيرلنديين، وتصطف على جانبيه البيوت التاريخية والمنازل الأثرية.
أما ميدان The Plaza de Espa?a، المصمم على شكل مثلث، فيقع في وسط المدينة تمامًا، ويضم مبنى البلدية المتميز بضخامته وواجهته وأعمدته المشيدة على طراز عصر النهضة. كما يتزين طابقه الثاني بلوحة تصور فيليب الثاني ملك إسبانيا. في داخل المبنى، تعلو الجدران إطارات خشبية محلية بديعة، ولوحات من أعمال التشكيلي Mariano de Cossio. يذكر أن المبنى يفتح أبوابه للزائرين خلال ساعات العمل في أثناء النهار. بالقرب من المكان، يقع مقهى لا بلاسيتا Café La Placeta، حيث يمكنكم الاستمتاع بكوب من القهوة، وذلك قبل الاتجاه جنوبًا نحو سالازار بالاس Salazar Palace لمواصلة الجولة في هذه المناطق الجميلة.
على امتداد الطريق المطل على ساحل البحر، يقع شارع لاس نيفيس Avenida de las Nieves. هناك، وبالقرب من ساحة ألميدا Plaza Almeda، يلمح الزائر نموذجًا مطابقًا للسفينة سانتا ماريا Santa Maria التي اعتلى كريستوفر كولومبوس متنها ليبحر مستكشفًا أرجاء العالم الجديد في سنة 1492. اليوم، أصبحت هذه السفينة مقرًا لمتحف بحري يحتوي على مجموعة مميزة من الأعلام واللوحات التوضيحية، إضافة إلى عدد من أدوات الملاحة البحرية.
على مقربة من السفينة، يقع متحف التاريخ الطبيعي وعلم الأجناس البشرية Museum of Natural History and Ethnology الذي يعرض تاريخ الحياة النباتية والحيوانية على الجزيرة. وإلى جوار المتحف يقبع مبنى معرض الفنون الجميلة Fine Arts Gallery، ويضم تشكيلة من اللوحات الإسبانية والفلمنكية. في واجهة المدينة المطلة على صفحة مياه البحر، تقع قلعة سانتا كاتالينا Santa Catalina Castle المشيدة في القرن السادس عشر لتكون خطًا دفاعيًا في مواجهة هجمات القراصنة، بينما على الجانب الآخر من وادي Barranco de las Nieves، تقع قلعة لا فيرجن La Virgen. يروي التاريخ أن إطلاق نيران المدافع من داخل هاتين القلعتين أدى إلى إبعاد سفن الأسطول البحري الملكي البريطاني بقيادة سير فرانسيس درايك Sir Francis Drake، ومنعه من محاولة الاستيلاء على الجزيرة في سنة 1585. وعلى امتداد الساحل، أيضًا، وبالقرب من الميناء وحوض بناء السفن، يمتد شاطئ Playa Nueva الرملي الرحب وقد نصبت على أرضه شبكات ملاعب كرة القدم، والكرة الطائرة. تتميز أجواء الشاطئ بالهدوء والسكينة، وهو المكان الملائم للاسترخاء وراحة البال.
حين نتجه شمالاً استكمالاً لجولتنا الاستكشافية في ربوع الجزيرة الرائعة، نصل إلى محطتنا الأولى في سان أندريس San Andres، تلك القرية الساحلية الزاخرة ببيوت شُيِّدت على الطراز المحلي التقليدي ورصفت شوارعها بالحجارة، كما ازدانت ميادينها واكتست بالزهور وأشجار النخيل. في المناطق المجاورة لهذه القرية، زُرعت أشجار الموز وقصب السكر، والخضراوات جنبًا إلى جنب. على بعد عدة كيلومترات جنوبًا، يقع مجمع المسابح الطبيعية ذات المياه المالحة Charco Azul، وهو يضم أسطحًا للاستلقاء تحت أشعة الشمس بين كل مسبح وآخر. في هذا المكان الساحر، يمكن التوقف لتناول طعام الغداء، أو الاستجمام في سويعات الأصيل، وذلك قبل الانطلاق مرة أخرى لزيارة مدينة لوس سوسيز Los Sauces العصرية التي تضم متحف إل ريجينتي El Regente Museum المخصص لكل ما يتصل بتراث الغولفيو golfio، وهي رقائق تصنع من دقيق الذرة، لتضاف بعد تحميصها إلى الحساء، أو الخضراوات، وحلوى البودنغ، والمثلجات.
على بعد ثلاثة كيلومترات غرب سان أندريس، تقع غابة مطيرة دائمة الخضرة تكسوها السرخسيات، وأشجار الليمون، ونبات الآس العطري، وأشجار الغار المغطاة بالطحالب. تقع هذه الغابة ضمن منطقة لوس تيلوس los Tilos التي أعلنتها اليونسكو محمية طبيعية، وهي موطن لطائر الشحرور، والحسون الجبلي chaffinch، إضافة إلى أنواع عدة من طير الحمام. هناك، يمتد طريق يبلغ طوله 20 كيلومترًا يخترق عدة أنفاق تنتهي إلى مجموعة من الشلالات المائية المذهلة التي تستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية. غير أنه يمكن لراغب التنزه أن يتخذ طريقًا دائريًا أقل وعورة، يمتد على مسافة 1.5 كيلو متر، يتميز بتدرج أرضه نحو 800 درجة تؤدي عند صعودها إلى شرفة Mirador Topo de las Barandas المطلة إطلالة مذهلة على واد ضيق بديع. يقع هذا الوادي خلف مركز الزوار مباشرة، حيث يمكنهم مشاهدة عرض سينمائي يتناول الغلاف الحيوي للأرض، ومشاهدة معروضات يضمها متحف صغير، والاستمتاع بوجبة خفيفة أو كوب من القهوة أو الشاي.
في قلب الجزيرة، يقع المتنزه الوطني La Caldera de Taburiente، ويمتد فوق أرض فسيحة منخفضة يبلغ ارتفاع أعلى نقطة فيها وهي منطقة Roque de Los Muchachos 2420 مترًا. تقوم وكالة الغابات الوطنية ICONA بإدارة المتنزه، وذلك لما يضمه من نباتات نادرة فريدة. قبل الانطلاق في هذه الرحلة الاستكشافية، يجب التوجه إلى مركز خدمة الزوار، حيث يقوم موظفوه بشرح أفضل الطرق لزيارة فوهة البركان. ولمن لا يرغب في الوصول إليه سيرًا على الأقدام، تتوافر نقاط عدة يمكن النظر إليه من مواقعها، فمن الجنوب، هناك نقطة La Cumbrecita، بينما تقع نقطة La Roque de Muchachos شمالاً حيث يستطيع الزائر الاستمتاع بالنظر إلى فوهة البركان، ورؤية صفحة مياه المحيط عبر السحب الكثيفة التي تمر في الأسفل.
يقع المرصد الفلكي العالمي، الذي افتتح سنة 1985، على الطريق الصاعد نحو القمة، وهو يعد أحد أهم المراصد في العالم، إذ يضم أكبر تليسكوب، ويتميز بموقعه الذي اختير دون غيره لأسباب عدة، من بينها ما تتمتع به الجزيرة من أجواء وسماء صافية فوق أعلى نقطة فيها، وهو ما يجعلها موقعًا مثاليًا لرصد الظواهر الفلكية. كما تعد لا بالما مكانًا قصيًّا، وهو ما يعني أن المنطقة التي تقع فيها خالية من التلوث الضوئي، إضافة إلى أن شكل الجبل والرياح السائدة يدعمان تدفق الهواء دون انقطاع أو اضطراب. إضافة إلى هذه الأسباب، يتيح هذا الموقع متابعة حركات النجوم بجودة عالية.
يمكن لمن يتجه ناحية الجنوب الشرقي قاصدًا لا بالما ألا يفوِّت الفرصة للتوقف عند شرفة ميرادور لا كونسيبسيون، Mirador La ،Concepcion إذ تتيح له مشاهدة مناظر أكثر جاذبية وبهاء. على مسافة ثلاثة كيلومترات جنوبي مدينة لوس كانكاخوس Los Cancajos التي تتميز بشواطئها الصخرية الخلابة، تقع الساحة الصيفية التي تجتذب سكان العاصمة للاستمتاع بأجوائها، قدر ما تستقطب كثيرًا من هواة الغوص، ولمن يرغب في ممارسته، يوفر مركزbuceosub@gmx.net) Buceo Sub ) التدريب على الغوص، وتأجير معدات الرياضات البحرية كافة. هناك، تقع وكالة Natour التي تتولى، مع عدد من الشركات الأخرى، تنظيم الجولات السياحية في الجزيرة، وتوفر جميعًا أنماطًا مختلفة من الرحلات على متن القوارب أيضًا.
في الجهة الغربية من الجزيرة، تقع ثاني أكبر مدنها وهي لوس يانوس دي أريداني Los Llanos de Ariadne، وتعد جزءًا من إقليم يشتهر بزراعة أشجار الموز. وعلى مسافة تبلغ ثلاثة كيلومترات شرقًا، تقع مدينة إلباسو El Paso، بينما يحتضن جنوب غربي لوس يانوس دي أريداني مدينة أخرى هي بويرتو دي ناوس Puerto de Naos التي تتميز بأجمل شواطئ الجزيرة. وعلى الرغم من كونها مدينة صغيرة، إلا أنها تعد وجهة سياحية واعدة تكتسب شهرة يومًا بعد يوم، إذ تجاور خليجًا يتمتع بحماية طبيعية تمنحه إياها واجهات صخرية مرتفعة تحيط به من كل جانب.
وإذا توافر لكم مزيد من الوقت، فيجب أن تفكروا مليًّا في زيارة بلدات تازاكورتي Tazacorte، وفوينكالينتي Fuencaliente، ومازو Mazo، و بارلوفينتو Barlovento. في نهاية الرحلة، لا تفوتكم زيارة الموقع الأثري في لا زارزا La Zarza، وهي الموطن الأصلي للسكان الأوائل «البنهواريين» الذين تركوا نقوشًا حجرية مذهلة. في الوقت نفسه، يضم الموقع متحفًا صغيرًا تصور مقتنياته وقائع الحياة اليومية للسكان القدماء، وفيلمًا مصورًا تفاصيل مطعمهم، وممارساتهم الطبية، وطقوس دفن الموتى.
من أكثر ما يمكن للمرء الاستمتاع به في لا بالما هو تناول وجبات الغداء أو العشاء في الهواء الطلق، فالأكلات المميزة التي يشتهر بها أهل الجزيرة تعد من أساسيات الطهي في حوض البحر المتوسط. ومن بين المكونات الشائعة لهذه الأكلات، تأتي الأسماك، والأرز، والذرة الحلوة، و البطاطس، والطماطم، والبطيخ. هذا، وتستخدم لحوم الماعز والضأن لصنع أطباق اللحوم الرئيسة، بينما تطهى المأكولات البحرية بأصناف أساسية من الأسماك مثل أبو سيف، والقاروص. تقدم الأطباق كافة مقلية أو مشوية، وتصحبها، في العادة، صلصة الموجو المصنوعة من زيت الزيتون والأعشاب والتوابل. ولا يفوتكم، أيضًا، تذوق وجبة Cabrito en Salsa المصنوعة من مكعبات لحم الماعز المتبلة بصلصة من الفلفل الأحمر والأعشاب، أو وجبة puchero المكونة من الفاصوليا، والحمص، وأنواع مختلفة من الخضراوات. ولختام هو الأطيب، تذوقوا كعكة bienmesabe المصنوعة من البيض واللوز والسكر والعسل. أتمنى لكم وجبات رائعة المذاق، ورحلة سعيدة.